فلسفة البلاء
سماحة الشيخ ناصر مكارم دام ظله
السوال :
ما أن تقع بعض الحوادث من قبيل الزلازل والسيول حتى يرى الإنسان نفسه أمام بعض التساؤلات من قبيل : لم تقع بعض الزلازل والهزات الأرضية والأمراض الفتاكة التي تؤدّي بحياة الناس ؟!!.. ولماذا تقع هذه الحوادث في مناطق معينة دون البعض الآخر ؟!!.. ما فلسفة وقوع مثل هذه الحوادث ونزول البلاء ؟!!.. هل هذه الحوادث عفوية للأفراد المذنبين ؟!!.. لماذا...؟!! ولماذا...؟!!
الجواب :
حسب علمنا وما وصلنا من كتب أعلامنا فإنّ مثل هذه الأسئلة كانت تساور العديد من الأفراد - ولا سيما حين وقوع الحوادث الأليمة التي تدعو الإنسان إلى التأمل والتفكير - حتى أنّ تاريخ الأديان والعقائد يشير إلى أنّ البعض تخلى عن عقيدته التوحيدية ولجأ إلى بعض المدارس المادية والإلحادية أثر عدم تلقيه الأجوبة الشافية التي تفسر ما لديه من أسئلة؛ ذلك لأنّ البعض قد يورد بعض التفاسير المقيتة التي تنسب هذه الظاهرة المفجعة إلى غضب الطبيعة وما شاكل ذلك، غير أنّ الحقيقة قد تبدو معكوسة تماماً لو نظرنا لهذه الأمور بعين العقل والحكمة.
توضيح ذلك : أنّ أحكامنا التي نصدرها بشأن الربح والخسارة إنّما هي نسبية على الدوام، فكل ما كان بمصلحتنا نحسبه مفيداً ونافعاً والعكس بالعكس، دون أن نكترث لانعكاسات الأمر على صعيد المجتمع ومستقبله فربّما تكون مادة كيميائية سامة لنا، بينما يمكن أن تكون هذه المادة علاجاً للآخرين وبالعكس... فهل يشكل ربحنا أو خسارتنا معياراً حسناً أم قبح ظاهرة معينة، أم ينبغي دراسة الظاهرة من جوانبها كافّة بغية إصدار الأحكام بشأنها ؟!!.. لا بأس بهذا المثال لنقف على حقيقة هذه القضية :
قطعاً هنالك بعض الفوائد والأضرار التي يستبطنها هطول الأمطار الغزيرة; وأحكام الناس بهذا الشأن ستكون متنوعة. فأولئك الذين يجرف السيل بيوتهم ومزارعهم سيتحدثون بلوعة قائلين : إنّي لأجهل سبب هذا البلاء الذي أصابني..!! أمّا أولئك الذين كانت مزارعهم تعاني من شحة المياه أو تحتاج بعض محاصيلهم لمزيد من المياه، وقد امتلأت ترعهم وجداولهم بالمياه فلسان حالهم يقول : يالها من نعمة فضيلة، لقد أفاض الله علينا لطفاً وعناية..!! والواقع لو تأملنا جميعاً تأثيرات ذلك المطر لعدوه جميعاً « أمطار رحمة » لا غضب الطبيعة.
أضف إلى ذلك فإنّ بعض أنواع البلاء نعمة كبيرة نجهل حقيقتها ونغفل عنها، فبعض الأمراض التي تصيب الإنسان مرّة في حياته إنّما تحصنه عادة من الإصابة به ثانية. فلو نظرنا إلى المرض في ذات اللحظة لاعتبرناه بلاءً، بينما لو أخذنا بنظر الاعتبار انعكاساته علينا باقي عمرنا لرأيناه نعمة. ولعل الفلسفة التي نفهمها من ظهور البلاء يتمثل في إدراك النعمة. فلا أحد يدرك أننا نغرق في بحر من النعم الإلهيّة، لكننا لا ندرك أغلب هذه النعم، اللّهم أن نسلب تلك النعمة لبعض الوقت. أفرض أنّ المرض انعدم من العالم، كيف يمكننا أن ندرك نعمة الصحة والعافية..!! ولو لم يكن لهذه الأرض حركة موضعية فهل كانت ستشهد من قرار..!! ولو لم يقع الجفاف أحياناً، فهل كان يسعنا الوقوف على دور المطر في الحياة..!! وبناءً على ما تقدم وبغية لفت انتباه الإنسان إلى النعم التي لا تعد ولا تحصى فتشده إلى الله، إنّما تشهد أحياناً بعض التغييرات لتقودنا إلى إدراك تلك الحقائق. هذه التغييرات الطفيفة والمؤقتة هي التي نصطلح عليها بالبلاء. أوليس في هذا البلاء عبرة لمن اعتبر ؟!!.. وهل يبدو من العجيب أن ننعت هذا البلاء بأنّه نعمة ورحمة. وأمّا لماذا يشمل هذا البلاء بعض المناطق دون الأخرى..!! ولا تطال بعض الناس..!! لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ هنالك سلسلة من القضايا الطبيعية تقف وراء ظهور البلاء، فإذا ما توفرت بعض الظروف يظهر البلاء. فقد جاء في بعض الروايات أن أحد شرائط نزول البلاء شياع بعض الذنوب بين الناس، فنحن نقرأ في دعاء كميل : « اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللّهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء... ». وقال تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } سورة الأنفال الآية 25.