سيدتي
مولاتي
أم المؤمنين السيدة خديجة الكبرى عليها السلام
بين الحين والآخر.. نسمع أو نقرأ رأياً موروثاً أو متلقّىً من مصادر غير معلومة، لا يلتقي مع الفكر الإسلاميّ الصحيح، ولم يُحقّق على الوجه السليم. وكان من تلك الآراء، أنّ خديجة بنت خُوَيلد أمّ المؤمنين زوجة رسول الله صلّى الله عليه وآله.. كانت قد تزوّجت في الجاهليّة مرّتَين بمشرِكَين قبل اقترانها بالنبيّ صلّى الله عليه وآله، وأنّ لها منهما عدّةَ بنات.
إلاّ أن التحقيق التاريخيّ الدقيق يذكر أنّ لخديجة عليها السّلام أختاً اسمها « هالة »، كان قد تزوّجها رجلٌ مخزوميّ فولدت منه بنتاً اسمها « هالة » أيضاً، فلمّا مات تزوّجت برجلٍ تميميّ يُقال له أبو هند، فأولدها ولداً اسمه « هند »، وكان لهذا التميميّ امرأة أخرى قبل هالة قد ولدت له ابنتَين هما: زينب ورقيّة، حتّى إذا مات التميميّ لحق ولده هند بقومه، وبقيت هالة أخت خديجة والطفلتان زينب ورقيّة وزوجة التميميّ السابقة، فضمّتهْم خديجة إلى كفالتها. وبعد زواج خديجة عليها السّلام بالنبيّ صلّى الله عليه وآله ماتت هالة، فبقيت الطفلتان في حِجْر خديجة والرسول صلّى الله عليه وآله، فهما ربيبتاهما، لا غير.
ذكر تحقيقَ ذلك السيّد جعفر مرتضى العامليّ في كتابه ( الصحيح من سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ دراسة وتحليل / ج 1 ص 123 ).. ثمّ قال:
كان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت، فنُسِبتا ـ أي الطفلتان ـ إليه صلّى الله عليه وآله، مع أنهما ابنتا أبي هند زوج هالة أخت خديجة رضوان الله عليها.
إنّ التتبّع التاريخيّ الدقيق أثبت أن البنات اللاّتي نُسِبن إلى خديجة عليها السّلام هن من غير النبيّ صلّى الله عليه وآله ولم يكنّ بنات خديجة، كما أنّ اللّتَينِ تزوّجهما عثمان لم يكنّ بناتِ رسول الله صلّى الله عليه وآله ولا بنات خديجة.
بينما ذكر التاريخ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يُرزَق من البنات إلاّ فاطمة الزهراء عليها السّلام فقط، أمّا من الأبناء فكان له من السيّدة خديجة عليها السّلام: القاسم، وبه كُنّي المصطفى صلّى الله عليه وآله، عاش حتّى مشى ثمّ مات... وعبدالله، وقد مات صغيراً، أمّا إبراهيم فمِن مارية القبطيّة، وهو الآخر قد تُوفّي صغيراً.
وهكذا ليكون امتداد نسل النبيّ صلّى الله عليه وآله من بضعته الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها السّلام بواسطة ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فتمتدّ الذُّريّة المباركة من: الحسن والحسين عليهما السّلام، ويتحقّق وعدُ الله تعالى في قوله لرسوله صلّى الله عليه وآله: « إنّا أعطيناك الكوثر » ـ قيل: الكوثر هو الخير الكثير، وقيل: النسل الكثير. وها هم ذريّة رسول الله صلّى الله عليه وآله ينتشرون ملايينَ في بقاع الأرض.
أمّا أن تكون خديجة صلوات الله عليها قد اقترنت برجلينِ جاهليّين قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله.. فتلك شبهة مرفوضة، إذ أنّ ذلك لا يناسب هذه المرأةَ الجليلة التي عُرفت بمكانتها الشامخة في قريش، وكانت تُدعى قبل الإسلام بـ « الطاهرة »، وقد دوّن لها التاريخ سيرةً فاخرة، حتّى امتازت بين العقائل، فكيف تقترن برجل نكرةٍ مجهول اسمه أبو هالة بن زُرارة التميميّ، أو بآخَرَ مجهولٍ أيضاً اسمه عتيق بن عائذ المخزوميّ ؟!
هذا.. في الوقت الذي هجَرْنها نساء قريش حينما اقترنت بالنبيّ صلّى الله عليه وآله قبل بعثته، وغضبن عليها لأنّها ـ كما قُلنَ لها: خطبَكِ أشرافُ قريش وأُمراؤهم، فلم تتزوّجي، وتزوّجتِ محمّداً يتيمَ أبي طالب فقيراً لا مالَ له!. مع أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله في نظر أهل الجاهلية.. كان ذا النسب الشريف الأسمى، فهو حفيد عبدالمطّلب سيّد قريش وزعيمها، وقريش يومذاك زعيمة القبائل العربية، وهو ابن أخ أبي طالب سيّد الأباطح وشيخ قريش. وكان صلّى الله عليه وآله قبل بعثته يُعرف بينهم بـ « الصادق الأمين »، حيث زكت خصاله واشتهرت فضائله، ونُظِر إليه بعين الإجلال والإكبار.
وقد خطب أبو طالب عليه السلام خديجةَ لابن أخيه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، فرأى صدوراً مفتخرةً بذلك، ومع هذا.. كان ما كان من نساء قريش، فكيف لو كانت خديجة ـ حاشاها ـ قد رضيت بالزواج من مجهولٍ لا حسبَ له في ذلك الوقت ؟! وهنا يتساءل أبو القاسم الكوفيّ ـ بعد ذِكْره مقاطعة نساء قريش لخديجة ـ قائلاً: كيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوّجها أعرابيٌّ مِن تميم، وتمتنع من سادات قريش وأشرافها ؟! ألا يعلم ذوو التمييز والنظر أنّه مِن أبينِ المحال، وأفظع المقال ؟!
ولا يخفى ـ أيُّها الإخوة ـ أنّ النبيّ محمّداً صلّى الله عليه وآله يمس مولاتنا أمّ المؤمنين خديجة عليها السّلام برحمٍ قريب، وهذا أمرٌ له اعتباره عند العرب، فأين منها التميميّ، أو المخزوميّ ؟! يُضاف إلى ذلك أدلّة تاريخيّة ووثائق صحيحة قاطعة، ذكرتها كتب عديدة تؤكّد عدم زواج خديجة عليها السّلام قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال ابن شهرآشوب:
روى أحمد البلاذريّ في ( أنساب الأشراف )، وأبو القاسم الكوفيّ في ( الاستغاثة )، والشريف المرتضى في ( الشافي )، وأبو جعفر الطوسيّ في ( تلخيص الشافي ).. أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله تزوّج بخديجة وكانت عذراء.
هذا، فضلاً عن أنّ خديجة سلام الله عليها كانت من الحنيفيّة على دين النبيّ إبراهيم الخليل شيخ الأنبياء صلوات الله عليه، موحِّدةً عارفة؛ لذا انجذبت إلى حبيب الله المصطفى خَيْر خيرة الله صلّى الله عليه وآله، وكانت في أوّل شبابها قد سمعت ذلك الراهب يقول لها ولثُلّةٍ من بنات قريش: لا أدري أيتكنّ صاحبةُ نبيّ آخِر الزمان! فسَخِرْن منه ورشقْنَه، إلاّ خديجة، فقد تمنّت أن تكون صاحبة خاتم الأنبياء، وكتمَتْ ذلك حتّى وُفّقتْ إليه فنالت بُغيتها المباركة.
وربّما كانت رواية الثيّب روايةً إسرائيليّة أو خبراً مُعرِضاً يرمي إلى أمرين:
الأوّل ـ تفضيل بعض نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله على خديجة عليها السّلام كونهن أبكاراً وهي ثيّب، وإن كان ذلك ليس معياراً للفضل أو الأفضليّة؛ فقد كانت أمّ سلمة رضوان الله عليها خير نساء رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد خديجة وهي ثيّب، وطلّق النبيّ صلّى الله عليه وآله إحدى نسائه لسوء خلُقها وهي بِكْر! كما ذمّ كثيراً منهنّ لسوء سلوكهنّ وهنّ أبكار، بل وحذّر من فتن بعضهنّ وأنّبأ صلّى الله عليه وآله بعضهنّ لمواقف وأفعال صدرت منهنّ، وكنّ أبكاراً حين تزوّج بهنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله. وتلك سورة الأحزاب تصرّح وتلمّح في تهديد نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله على بعض خصالهنّ من غير تمييزٍ بين بكرٍ وثيّب.
والأمر الثاني ـ الذي يُراد من كون أنّ خديجة ثيّب ـ ولم تكن كذلك ـ هو الطعنُ برسول الله صلّى الله عليه وآله، إذ تزوّج وهو شاب بامرأةٍ تكبره بخمسة عشر عاماً، ربّما رغبةً في أموالها، مع أنّ التحقيق التاريخي يستبعد أن تكون خديجة عليها السلام تكبره صلّى الله عليه وآله بهذا العدد من السنين، بل ربّما كان عمرها ثمانية وعشرين عاماً حين اقترنت برسول الله صلّى الله عليه وآله على أكثر الفروض.
ولعلّ هناك غرضاً خبيثاً، وهو الانتقاص من منقبةٍ لمولاتنا فاطمة الصدّيقة صلوات الله عليها، إذا افترضوا أنّها وُلدت من رحمٍ كان حليلاً لمشركَينِ في الجاهليّة. فيما لا يقبله العقل أن تكون سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام ناميةً في رحمٍ جاهليّ، أبداً وحاشا! فضلاً عن كون النبيّ صلّى الله عليه وآله مختاراً لأفضل نسائه من بين مَن اقترنّ بالمشركين والجاهليّين! حاشا ذلك رسولَ الله صلّى الله عليه وآله.
لذا ينبغي أن ننتبه أولاً مِن مثل هذه الأخبار الغريبة، وأن نُنزّه تاريخنا من الشواذ المخلّة بالعقائد الصحيحة، وأن نكون على غايةٍ من البصيرة قبال أيّة شبهة ينقلها بعض المؤرّخين.. الغافلين أو المغرضين، ممّن لا ينظرون إلى أهل البيت النبويّ بعين التقديس والإجلال والتنزيه، والشرف الأكمل الأتمّ.