الاسرار الباطنية للأذان والإقامة
كذلك من الأمور التي تتعلق بالصلاة، وينبغي أن يعلم الإنسان أسرارها الباطنية، هي مسألة الأذان والإقامة.. وكما قد تم التنبيه سابقا: بأن الله -عزّوجل- في تشريع الصلاة، أراد من الإنسان أن ينتقل إلى لب الصلاة -المتمثل بالتكبير والتسليم، وهو الهيكل الأساسي للصلاة- بشكل تدريجي من أول نظرة لماء الوضوء فيقول: (الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً، ولم يجعله نجساً).. إلى أن يقرأ أدعية الوضوء، ثم دخول المسجد مع مراعاة آداب الدخول، ثم الأذان، ثم الإقامة.
إن خير تشبيه لهذه الحركة، هو الماء العكر الذي فيه شيء من التراب، فيأتي الصبي ليلعب بهذا الماء بعصاه أو ماشابه ذلك.. فإن أراد الإنسان أن يشرب من هذا الماء، عليه أن ينتظر لتترسب هذه الشوائب، ومن ثم يشرب ماءً زلالاً.. والذي يأتي للصلاة بين يدي الله -عزّوجل- وخاصة إذا كان قد جاء من زحمة الحياة اليومية: من العمل، أو من المنزل الذي فيه مشكلة عائلية؛ فباطنه بمثابة هذا الماء العكر، فلا بد أن يتريث، وينتظر تدريجياً إلى أن تترسب الشوائب، ويصفو قلبه؛ فلا يفكر إلا في الصلاة.
ولهذا، فإن مقدمات الصلاة كثيرة: منها الأذان، والإقامة.. إن روعة الأذان والإقامة، أجلّ من أن يكون انعكاساً لمنام بعض الصحابة، كما قد يدّعي البعض.. فالأذان والإقامة والصلاة كل هذه الحركات، إنما هي من الله عزّوجل؛ لأنها تعتبر قمة حركة الإنسان إلى الله والمعراج إليه.. فالذي يعين مراحل المعراج، هو رب العالمين.
يلاحظ أن هناك تشابها كبيراً، في الفقرات بين الأذان والإقامة: أوله التكبير، وآخره التهليل.. فيبدأ بالتكبير، وينتهي بالتهليل؛ ليذكر الإنسان دائماً باستحضار حقيقة التوحيد.. إن التوحيد أن لا ترى أحداً إلا الله -عزّوجل- هذا هو التوحيد.. (لا إلـــه إلا الله)، ليس معنى ذلك فقط أن هبل ومنات وهذه الأصنام، ليست بآلهة.. بل معناها: أن لا مطاع، إلا الله -عزّوجل- هذه هي فلسفة الإسلام.. فلو أن أحدنا حكّم في حياته مضامين كلمة (لا إلـه إلا الله) - فهو مركب من شقين: شق النفي، وشق الإثبات- لاستقامت أموره.. لا إلــه، ينطبق على الشهوات، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أليس المقصود بالهوى هو إله يعبد؟!.. إن المؤذن والمقيم يكرر هذا الشعار كل يوم كذا مرة: لا إلـه إلا الله، ويختمها بالتكبير.. حقيقة إن لب الإسلام هو التوحيد، وأئمة أهل البيت هم أكثر الناس، وأكثر الخلق، تأكيداً على هذه النقطة، وهي التوحيد بين يدي الله عز وجل.
يلاحظ بأن تركيبة الأذان والإقامة، عبارة عن دعوة الإنسان؛ لينقطع إلى الله -عزّوجل- إذ لا مؤثر في الوجود، إلا هو.. أي: أيها المصلي!.. إن كنت تريد الدنيا، فالمؤثر هو الله، فتوجه إليه في الصلاة.. وإن كنت تريد الآخرة، أيضاً هو الذي تصير إليه الأمور {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ فتوجه إليه في الصلاة.. فإذن، إن الصلاة الخاشعة، تحتاج إلى خلفية فكرية واعتقادية.. وهذه الخلفية يستوعبها الإنسان، من خلال الأذان والإقامة.
)حيّ على خير العمل).. صحيح أن الإنسان قد يدعى في وقت الصلاة إلى الجهاد، ويقدّم الجهاد على الصلاة.. فهذا لا ينافي هذه العبارة: (حيّ على خير العمل)؛ بمعنى أن هذا خير العمل بعنوانه الأولي.. ولهذا لم يكن من الداعي أبداً، أن تحذف هذه الفقرة من أذان المسلمين (حيّ على خير العمل) في حد نفسه.. نعم، إذا كان هناك تكليف آخر، أهم من الصلاة: كإنقاذ نفس محترمة؛ فإن الفقهاء جميعا يفتون بأنه إذا ضاق الوقت، وكان هناك غريق، وهنالك صلاة قد يفوت وقتها.. طبعاً يقدم إنقاذ الغريق، فهذا أمر مسلّم.
(قد قامت الصلاة).. أي أن الصلاة قامت، فادخل في خيمة الصلاة!.. إن إقامة الصلاة، معنى يغاير أداء الصلاة.. فالإقامة أن يصلي الإنسان الصلاة بشرائطها، كما أرادها الله عز وجل، أما نحن فإننا نقرأ الصلاة ولا نقيمها.. إن قراءة الصلاة عبارة عن التلفظ: بالتكبير، والقراءة، وذكر الركوع، والسجود، والتشهد، والتسليم.. إلا أن إقامة الصلاة معنى مغاير، بمثابة الخيمة التي تقيمها على عمود على وجه الأرض.. فإذن، إن للصلاة إقامة كما لو وضعت عموداً تحت ذلك.. وبالتالي، فإن في الأذان والإقامة تذكيرا بهذا المعنى.
على كلٍّ، إن تركيبة الأذان والإقامة، إذا قرأها الإنسان بتوجه -صحيح هو مستحب؛ ولكنه متأكد أن يؤذن ويقيم سواءً في الأداء أو القضاء- ينتقل انتقالاً تدريجياً إلى بحر الصلاة.
إن مشكلة الصلاة، أنها قضية متكررة خمس مرات في اليوم - وعلى مدى خمسين، أو ستين، أو سبعين، أو تسعين عاما- وهذا التكرار يجعل القضية قضية رتيبة جداً.. فالإنسان الذي اعتاد على الصلاة، بإمكانه أن يبدأ الصلاة وينتهي منها، ولا يفقه شيئا مما قاله فيها، أي من التكبير إلى التسليم.. وذلك لأن الوجود، والبدن، والجهاز العصبي، وجهاز النطق، كله تعود على هذه الحركة الرتيبة.. وعليه، لا بد وأن يتكلف الإنسان تكلفاً التلفظ بالألفاظ الواردة بالأذان والإقامة، وهكذا في تسبيحات الزهراء صلوات الله وسلامه عليها.. حيث أن البعض يحوّل هذه التسبيحات المباركة، إلى ورد لا يفقه له معنى.. وبالتالي، فإن على الإنسان قبل أن يكبر، أن يستكمل عملية الإعداد النفسي والفكري؛ ليكبر وهو في قمة الإلتفات إلى الله سبحانه وتعالى.